في حب مصر. أحباً في الفرعنة أم كراهية للإسلام؟
3/10/2003
في حب مصر
أحُبّاً في الفرعنة أم كراهية للإسلام؟
شاء الله لي أن أقرأ العدد ( 3924) من مجلة روزاليوسف الصادرة يوم السبت 25 جمادي الأخرة 1424هـ ــ 23 أغسطس 2003 ص, وتوقفت ملياً عند ملف العدد, الذى يضم ثلاث مقالات : “المصريون والعروبة ” لمحمد البدري, “أنا المصري …” لماجد فرج, “مصر أولاً ….” لمحمود الزلاقي, وفهمت من مضمون الملف أنه استكمالاً للعدد الذي سبق من المجلة.
ومن خلال سطور المقالات الثلاث, ورغم التباين الفكرى والفهمي بين الفرسان الثلاثة, فهمت أن الغاية التي يسعون إليها هي استبدال عقيدة الأمة التي هي الإسلام, بعقيدة الفراعنة التي هي الوثــنية, ويعيبون كثيراً وصم الفرعونية بذلك الوصف, ويُسَـفهون من يصفها بما هو فيها, وبما قامت عليه أصولها وهي عبادة الأصنام, رضينا أم أبينا.
وبداية؛ أحب أن أوضح بجلاء, أن الفراعنة تاريخاً وعقيدة وحضارة, هم أجدادنا الأوائل, هم الأقباط الذين قسم المؤرخون تاريخهم القديم إلىثلاثين أسرة, على مدى ثلاثين قرناً من الزمان, سقطت فيها دولتهم سقوطاً كاملاً سبع مرات, ومع كل مرة سقوط, كان يأتي عصر جديد بحسب تقسيمات المؤرخين.
فهم مثل كل البشر, ومثل كل الدول, على مدار تاريخ الأمم, إذ تبدأ الدولة في الانهيار بعدما تصل إلىأعلى قمة المجد, وكما في المجد تكون النهضة والتقدم والرخاء, يكون مع الانهيار التخلف والتدهور والانحطاط .
بمعنى أنهم لم يكونوا كلهم فراعنة بالمعنى الدارج من الطاغوتية أو القوة أو الهيمنة, إنما كان فيهم اللصوص والضعاف والرجعيين والمتآمرين والخونة والانهزاميين والمنهزمين.
ولم تكن مصر طوال فترة هذه العهود والعصور الفرعونية وطناً قبطياً ( أي مصرياً ) واحداً, إنما كانت مصر مقسمة إلىاتنين وأربعين ولاية أو إمارة, تتباين فيما بينها من حيث القوة والضعف, ولكل واحدة منها إله أو آلهة خاصة بها لا تعبد من دونها إلها آخر.
وأغرب ما في العصور الفرعونية جميعاً؛ أن ولايات مصر الاثنين والأربعين, كان الصراع بينها حول مكانة الإله ومساحة هيمنته واتساع رقعة المؤمنين به وقدرته على تحقيق النصر باحتلال الولايات المجاورة, فالدين هو الوطن, والوطن كان دائماً تابعاً للدين, يتسع معه أو يضيق, ينهض أو يتخلف.
لذلك عجبت كثيراً مما قرأته في المقالات الثلاث, وهي تفتقد إلى رؤية علمية واضحة عن الفرعونية التي تعصبوا لها, ويطالبون أولي الأمر فينا بالتدبير والتخطيط للعودة إليها, وكان نصيب اللغة هو الأوفر في المطالبة بإحيائها وفرضها على أجيالنا, حتى يقرأ الأبناء في المدارس والجامعات تاريخهم العريق بلغته الأولى التي كتب بها .
والسؤال الآن بوضوح: هل حقاً تريدون العودة إلى المصرية بمعنى الفرعونية؟
أم أنكم كافرون بالمسلمين الذين يختلفون معكم وينافسونكم في النقابات والمجالس ويحاولون احتلال كرسي الحكم كما احتللتموه قبلاً أو تسعون لاحتلاله مستقبلاً؟
إن كانت الأخيرة, وأحسبها هي الحق, فقد ظلمتم أنفسكم واستدرجكم الشيطان لتقفوا في صفه خصوماً للإسلام, ولم تفرقوا بين أوامر الله ورسوله وأوامر الجماعات والأفراد الذين ينتمون مثلكم إلىالإسلام, بينما لكل منكم فهمه ولكل منكم مصالحه التي تتفق أو تتعارض مع هذه الأوامر الإلهية.
أما إن كانت الأولى, وهي الرغبة حقاً ويقيناً في العودة بمصر إلى ما قبل ميلاد المسيح عليه السلام بقرون ثلاثة أو يزيد, قفزاً على سته قرون تحول فيها آبائنا وأجدادنا الفراعنة, من الوثنية والصنمية إلى حيث الإيمان بالمسيحية الأولى ثم النصرانية في ظل دول بيزنطة واليونان والرومان, ثم قفزاً على أربعة عشر قرناً تحول فيها أكثر من 95% من آبائنا وأجدادنا الأوائل من المسحية إلىالإسلام, وبقى حوالي 5 % أو أكثر أو أقل قليلاً من هؤلاء الآباء والأجداد على ما كان عليه آبائهم وأجدادهم.
أقول: إن كانت غاية الملف هي ذلك, فإن خطأ منهجياً قد أحدث غيابه عن أصحاب المقالات الثلاثة, خللاً شديداً في طرحهم, يتجسد في عدم فهمهم للفرعونية كمنظومة عقدية متكاملة, ارتبط فيها كل نشاط أرضي, بإرادة سماوية غائبة عن الأعين أو منظورة في مثال مادي تؤدَّي له فروض الولاء والطاعة, حتى يرضى عن أجدادنا وعن أرضهم.
وأسأل بوضوح أكثر: هل رغبتكم في العودة بمصر هذه القرون الطويلة, انبهاراً بأوزوريس وإيزيس وست ونفتيس وأخناتون, أم هي كراهية النظام السعودي أو الإخوان المسلمين على وجه الخصوص والعرب على وجه العموم, أم كراهية الإسلام كعقيدة وكتاب مقدس ورسول خاتم, فرض علينا الامتثال لأوامر الله في مأكلنا ومشربنا وملبسنا وزواجنا وطلاقنا وتشريعات حكمنا؟
وثانية: لا أظن أنكم ستجنحون إلىالأخيرة, إنما هي الأولى, فإن كان ذلك كذلك, فإن جانبان للنقاش والحوار لا بد أن ينجليا أمامنا لنكون منصفين في قراراتنا, عادلين في أحكامنا.
الجانب الأول, وهو العرب والعروبة والعربية, ولن أسهب فيه لأنه من المعلوم بالضرورة لكل قبطي مسلم أو نصراني, إسلامي أو شيوعي أو ناصري أو قومي أو علماني, فأقول: إن اللغة العربية كانت نعمة من الله على الأقباط المسلمين ليقرأوا كتاب ربهم باللغة التي نزل بها على نبيهم صلى الله عليه وسلم, ومن هنا كانت قدسيتها في عقول ونفوس وتعليم وتربية المسلمين, من يمسها بسوء كأنما مس كتاب الله تماماً, ومن ينادي أو يسعى للحط من قدرها, فكأنما ينادي أو يسعى للحط من عقيدة الإسلام في نفوس المصريين.
أما العرب والعروبة؛ فهي من القضايا الفكرية المثارة منذ قرن كامل من الزمان, كواحدة من الدعوات العصبية في مواجهة عصبيات أخرى, وخلاصة القول عندي في هذه المسألة, أن كل العرب ( إجمالاً لا تفصيلاً ) هم مسلمون, لكن ليس كل المسلمين عرباً, فالإسلام عقيدة تتجاوز الأوطان واللغات, أما العرب والعروبة فهي جنس مثل كل الأجناس, أنعم الله علينا بالانتماء إليهم, وكأنما ليحفظ الله بالمسلمين الأقباط, سيرة علو شأن أجدادهم الأوائل بين كل خلق الله.
فكما كانوا على رأس الأمم الأولى بحضارتهم وأصنامهم وآلهتهم العديدة.
وكما كانوا على رأس الأمم الأولى التي اعتنقت المسيحية فكانت كنيسة الأسكندرية هي “ترمومتر” الصحوة الدعوية للمسيحية الأولى, وحماية الديانة الجديدة.
أقول: إنهم كما كانوا كذلك؛ فقد شاء الله لمصر ــ الفرعونية ثم المسيحية ــ أن تكون بعد ذلك عربية, تقرأ القرآن كما لم يقرأه أهل قريش اليوم, وترعى أحكامه وتحكم على قرائه, وهو ما لا تملكه أُمة أخرى على وجه البسيطة, ولا أقول ذلك عصبية لمصر, إنما وصفاً للواقع, ويثلج صدر كل مسلم في أمة العرب أو العجم, أن أكبر علماء السنة وعلومها كانوا من غير العرب, وأن أشهر قارئي القرآن اليوم في أوسع بقاع الأرض كانوا من مصر, وهي نعمة عظيمة خص الله بها أهل مصر المسلمين, امتداداً ربانياً لما كانوا عليه من تميز ورقي وسبق حضاري لأجدادنا الفراعنة.
وهذا يعني أن الإسلام أعلى وأغلى وأسمى من النفط أو براميله أو دولاراته, هو فوق الفينيقية والآشورية والبربرية والفرعونية والعروبية, إلا أننا من الصعب أن نمايز بين الإسلام وبين العروبة, فلا عروبة دون إسلام, ولا إسلام دون العروبة, ويبقى للعرب ميزة في نفوس كل قبطي مسلم تعلو قدر مصر, أن الله اختار من بينهم خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم الذي أتى إلى الأرض برسالة التوحيد, فأخرج الناس جميعاً من الظلمات إلىالنور.
لكن هذا الشرف المحمدي لا يعني بحال من الأحوال, علو قدر أي رجل عربي مسلم, على قدر أي رجل مصري أو أمريكي أو هندي مسلم, لقوله صلى الله عليه وسلم: لا فضل لعربي على عجمي ولا فضل لعجمي على عربي إلا بالتقوى. أو كما قال.
وهنا أجد قلمي مضطراً إلى وقفة قصيرة للغاية مع الإلحاح المستمر على أن الفتح الإسلامي هو احتلال لمصر لنهب ثرواتها, وهو قول أجمع المستشرقون الكافرون بالإسلام أنه قول كاذب, ولو عاد ” بنيامين” بابا نصارى مصر يوم الفتح المبين من قبره, لشهد أن الإسلام جاء محرراً لمصر وللمصريين وللكنيسة وللكنسيين, منقذاً لآبائنا وأجدادنا الذين اختاروا النصرانية عقيدة من دون الفرعونية الوثنية, واختاروا نصرانية مرقس التي آمنت بها كنيسة الأسكندرية, رافضين نصرانية بطرس التي آمنت بها كنيسة روما.
فإذا تحولت الحرية التي منحها المسلمون الأوائل لمصر وغير مصر, إلى طاغوتيه أو ظلم أو نهب أو غانيات أو جواري, فلا لوم على الإسلام, إنما اللوم على الأقباط المسلمين الذين استمرأوا الظلم وعجزوا أن يُعلوا في أنفسهم شأن دينهم الجديد, فيعلوا بهم دينهم على حكامهم الظالمين, وهي حالة لا زمت مصر منذ الأسرة الثانية من الأسرات الفرعونية الثلاثين, وكانت في أسوأ صورها وأشدها ظلماً وعسفاً وزوراً وتذبيحاً في آبائنا وأجدادنا النصارى, عندما جاء إليها المسلمون كما لوا كانوا رسلاً من السماء حطت على مصر, برداً وسلاماً على أهلها, ضمد الجروح وأعاد المطرودون وأحيا موات الكنائس بالعابدين والمصلين, ثم أظلها بالدين الجديد.
ذلك هو الجانب الأول الذي يستحق أن يطول النقاش حوله, وتنقيته مما علق به من أكاذيب وأخطاء وأوهام.
أما الجانب الثاني, فهو الفرعونية ذاتها, أي؛ ماهية الفرعونية التي بكى أصحاب المقالات الثلاثة كثيراً لأجل غيابها, داعين حكام البلاد بضرورة العودة إليها على وجه العجلة إنقاذا للبلاد مما هي فيه من ضلالات الإسلام ( وأستغفر الله لذلك كثيراً), وقرآنه ولغته العقيمة وأوامره المتخلفة ( وأكرر الاستغفار) راجيا الله أن أكون قد أخطأت هذا الفهم وأنهم منه براء.
ولأن المقام لن يتسع للوقوف على ماهية الفرعونية, فإنني مضطر إلى إيجاز ذلك نقلاً عن مصدر قومي حكومي شهير أحتفظ به لنفسي مؤقتاً, إذ قال المصدر نصاً: من فضل الله على المصريين أن كثيراً من ألوان الحياة التي كان يحياها قدماء المصريين قد وصلت إلينا شبه كاملة, ومع ذلك فما زالت نواح كثيرة من الحياة الدينية تبدو غير واضحة يكتنفها الغموض لأسباب عديدة منها:
1- تقديسهم للحيوانات والطيور.
2- الميل الدائم للعودة إلىالماضي البعيد ومحاولة مزجه بالحاضر القريب.
3- الاعتماد على السحر والقوى الخفية.
ولذلك تميزت الديانة المصرية القديمة بطابع خاص بين الديانات القديمة, ومن خصائصها:
1- تعدد الآلهة: فقد كان لكل إقليم معبود خاص, فقدسوا الأسد وبالغوا في تقديس اللبؤة, وجعلوا من الصقر رمزاً للشمس, وقدسوا البقرة فاتخذوها رمزاً للأمومة وأسموها حتحور, وقدسوا أبو قردان واتخذوا منه رمزاً للعلم وأسموه تحوت, وقدس أهل هليوبوليس الشمس وأسموها رع, وبقدر ما كانت تتسع وتنتشر عبادة إله منها, كان يعظم شأن الإقليم وتتسع مساحته على حساب الأقاليم الأخرى.
وفي الدولة الفرعونية الوسطى, جعلوا أوزوريس الأسطورة, متصدراً كل معبودات الأقباط, وفي الدولة الحديثة عبدوا آمون الذي انتصر على الهكسوس فأصبح ملك الآلهة وتنافس كل فراعنة الدولة في تشييد المعابد الضخمة له.
إلىأن جاء أخناتون, وبالقهر والقوة والسلطان والجيش القوي, أرغم كل أقاليم مصروأقباطها, أن يتركوا آلهتهم الإقليمية وأن يتوحدوا جميعاً حول إله واحد اختاره لهم أخناتون وهو؛ الشمس ترسل أشعتها على كل الأقباط, نوراً وحياة, وكان أول حاكم فرعوني يكتفي بصورة الشمس ولم يجعل لها صنماً, كما لم يجعل لها زوجاً أو ولداً مثل كل الآلهة السابقة في حياة الأقباط وأقاليمهم الاثنين والأربعين.
أما أسطورة إيزيس وأزوريس فهي قصة مسلية في تاريخ مصر الفرعوني, يجهل المصريون اليوم أنهما شخصيتين وهميتين مثل شخصية “جحا” ومثل شخصية “بابا نويل”, أوجدها العقل في خياله, ثم جعل منها صورة في واقعه, غير مرئية لكنها تمتلك كل مقومات الحقيقة والصدق في حياة الأقباط.
تلك هي أسس الحضارة المصرية التي لأجلها شـُيدت الأهرامات ونـُحتت الأصنام ونـُسخت الوصايا وحُفرت القبور.
وهؤلاء هم أجدادي وأجدادكم الأوائل, نحن أحفادهم وهم تراثنا وتاريخنا, لولا عقائدهم ما كانت حضارتهم, فلا حضارة لمن لا دين له, ولا بقاء لدين لا يوفر لأبنائه حضارة.
هؤلاء هم أجدادي الذين كفروا بالفرعونية من أجل النصرانية, ثم هم أجدادي الذين كفروا بالنصرانية من أجل الإسلام, كلهم أقباط, بعضهم من بعض, تاريخاً وحضارة وعقيدة وشراكة في الوطن.
وبعد هذا كله, أسأل كل دعاة الإقليمية: أحباً في الفرعنة أم كراهية للإسلام ؟
وأجيب عن نفسي وعنهم: لا هذه ولا تلك.
لهذا؛ فإن من يحب مصر دون مزايدة أو متاجرة أو خيانة, لا يجب أن يكون له همّـاً أو استفساراً في غير اتجاه واحد هو:
أين مصر الآن ؟ وإلى أين هي ذاهبة بنا؟
انتهيت بحمد الله من كتابة هذا المقال ومراجعته, في الساعة الواحدة من صباح يوم 14 رجب 1424 وأرسل إلى مجلة روز اليوسف بالبريد الإلكتروني وبالطبع لن ينشر.