حكاية أمة اسمها “مصر”
19/12/2003
ليس من الصواب أن ننسلخ من تاريخنا العريق إلى أجدادنا الفراعنة, سواء الموحدين منهم أو الوثنيين أو الذين اعتنقوا المجوسية أو اليهودية أو النصرانية, وسواء الذين اعتنقوا نصرانية روما االبيزنطية, أو نصرانية خاصة بهم في الأسكندرية, بغض الطرف عن تلك النصرانية التي جعلت من المسيح عليه السلام “إلها”, ومن أمه ” أم الإله”, أو تلك التي رفضت ألوهية المسيح وعُذب أهلها من أجل ذلك حتى الموت, فيما يعرف بالنصرانية الآريوسية كما عُرفوا بالموحدين.
إن هؤلاء جميعاً وغيرهم من أصحاب العقائد والطوائف والملل والنحل الوثنية والكفرية والشركية والموحدة, كلهم يشكلون نسيج أجدادنا الأقباط, الذين استقبلوا الفتح الإسلامي, أو الغزو العربي ـ كما يحب أهلنا نصارى مصر أن يقولوا ـ
وبغض النظر عما إذا كان أجدادنا الأقباط قد استقبلوا هذا الفتح بالدفوف, أو هذا الغزو بالحراب, فإن الإسلام حط بجناحية على بلاد الأقباط, وفرض قوانينه وعرض بضاعته, بما فيها من ترغيب وترهيب, وعطاء وأخذ, وعدل وقهر, ومصحف وسيف, فالمهم والحاصل والمحصلة والنتيجة النهائية, أن الأغلبية الغالبة من أجدادنا الوثنيين والكفرة والمشركين والموحدين, قد اختاروا الإسلام والتوحيد عقيدة لهم, وارتضوا محمداً خاتم الأنبياء والمرسلين نبياً لهم, فمنهم من قبلها خوفاً وطمعاً, ومنهم من قبلها خشية الموت جوعاً, ومنهم من قبلها رغبة في الجنة, ومنهم من قبلها خلاصاً من الظلم الكنسي الذي كان متسلطاً على الرقاب آنذاك باسم المسيح الرب, أو الإله المصلوب, ومنهم من ارتضى الإسلام ديناً لأنه كان بلا دين, أو ليعفي نفسه من دفع الجزية, أو انبهاراً بقوة المسلمين, أو حباً فيمن انتصر على عدوه, أو شغفاً بعقيدة جديدة تخلصة من إشكاليات عقيدته السابقة, أو ارتقاء في الفهم الإنساني والتحول من عبادة رب متعدد الوجوه والأشكال والمشيئات والإرادات, إلى رب واحد, تتسق إرادته ولا تنفصل عن مشيئته, في كلية بغير تجزيء, وهيمنة بغير تعارض, أو أن الله هداه حباً في الإسلام, واجتذاباً نحو الإيمان بوحدانية الله الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
وبقدر ما كان تعدد الديانات والعقائد والملل والنحل والطوائف, وبقدر ما كانت الصراعات تعم المجتمع الذي تحكمه سلطة أجنبية, جاءت من الجنوب الأروبي لتحتل الشمال الأفريقي وتنشر فيه دعوة النصرانية بحسب معتقداتها المتأثرة بالديانات اليونانية والرومانية الصنمية, ثم الفرعونية الوثنية في آن واحد, بقدر هذا وذاك, كانت أيضاً تتعدد الجيوش والملوك في ولايات مصر من الشمال إلى الجنوب, وكانت أيضاً تتعدد لغاتها ولهجاتها ولكناتها وحروفها, كسوق كبير لا صاحب له.
حتى اللغة التي تسمى بالقبطية نسبة إلى الوطن الذي سكنه أجدادي ولم يرتضوا به بديلاً, حتى هذه اللغة, كانت تنقسم إلى سبع لغات مختلفة, لا يفهم أصحاب اللغة الواحدة منهم, أصحاب اللغة الأخرى, كما كانت توجد اللغة العربية التي كانت تتكلم بها الأعراب الذين هاجروا إليها قبل الفتح الإسلامي بحثاً عن الرزق والتجارة فاستوطنوها.
في ضوء هذه الصورة المتعددة الألوان والأشكال, والمتباينة في تجانسها الاجتماعي, والمتجانسة برغم تباينها البنيوي, من حيث الموطن الأصلي والعقيدة واللغة واللون والرائحة, هؤلاء الذين هم في جملتهم أقباط مصر, هم الذين تحولوا إلى عقيدة الإسلام, باستثناء عدد قليل, اختار البقاء على أديان آبائنا السابقين.
هؤلاء الذين هم في جملتهم أقباط مصر, لما اختاروا الإسلام ديناً, أصبحت لغتهم الأولى بعد مرور قرن ونصف القرن من الزمان, هي لغة القرآن الذي آمنوا به, رسالة من عند ربهم الواحد, غير المتعدد, أو المتجزيء, أو المتجسد في صورة صنم, أو بقرة, أو كبش, أو شمس, أو صليب.
هذه الأغلبية الغالبة التي اعتنقت الإسلام ديناً واتخذت من العربية لغة عبادة ومسجد ومئذنة, كانت قبل يوم أو أسبوع أو شهر أو عام واحد من هذا الحدث التاريخي العظيم, هي الأغلبية الوثنية أو الكافرة أو المشركة أو الموحدة بحسب المفهوم الفرعوني.
ثم كان هذا الجيل الأول نفسه الذي رحب بدعوة عمرو بن العاص, هو أبناء وأعمام وأخوال وآباء وأمهات الجيل التالي في عهد الإسلام, وكانت الآلاف من الأسر الجديدة, خليطاً من هذه الديانات والعقائد والملل والنحل واللغات, بعضها من بعض, نسيج واحد في أفراحها ومآتمها وأعيادها وعاداتها وتقاليدها, من الصعب أن تمايز بين طائفة وأخرى, حتى مرت السنون, وتشكلت الأسرة المسلمة ذات الجذور المختلفة, والأسرة النصرانية ذات الجذور المختلفة أيضاً, أمة واحدة اختار أهلها الانتساب إلى الدين الجديد الوافد من بلاد العرب, إلا قلة من أبناء وأهل نسيج هذه الأمة, أبوا أن يغيروا دينهم واختاروا أن يحتفظوا بعقيدة أجدادهم وما وجدوا عليه آبآئهم, تلك العقيدة الوافدة من بلاد روما وبيزنطه والفرنجة.
ووفقاً لمصالح هذه الأمة التي اختارت غالبيتها العظمى عقيدة التوحيد, واحتراماً لأواصر الدم التي تربطها بالأقلية التي اختارت البقاء على التثليث وعبادة الصليب, عاش الأهلين أقباطاً لا يختلف فيهم القبطي النصراني عن القبطي المسلم, إلا بدار عبادته وكيفية صلاته, فاحتفل المسلمون الرافضون للتثليث بأعياد أهلهم من النصارى عادة لا عبادة, واحتفل النصارى الرافضين للتوحيد بأعياد أهلهم من المسلمين عادة لا عبادة, يعمهم السلام والأمن والغنى والعدل إن عمَّ, ويعمهم الرعب والخوف والفقر والظلم إن عمَّ, يشارك المسلمون في جنازات النصارى, ويشارك النصارى في جنازات المسلمين, يتعاونون في البناء, ويتساهمون في الأفراح, الموتى موتى للجميع, والمولودون مولودون للجميع, وكم من نصراني اختارت له أمه اسماً مسلماً, وكم من مسلم اختارت له أمه اسماً نصرانياً, إن شب حريق في بيت أطفأه الجميع, وإن فاض النيل زرعوا وحصدوا أو ارتحلوا, وإن جف تكافلوا وتصادقوا بالبر والإحسان, كلهم أقباط, احتار علماء الأجناس في تصنيفهم, وفشلوا في التمييز بينهم.
وشاء الله لأجدادنا منذ أن فرطوا في فرعونيتهم الوثنية واستبدلوا بها عقيدة النصرانية الموحدة ثم المثلثة, ألا يحكموا البلاد يوماً واحداً, إذ منذ أن باعوا أصنامهم الفرعونية المحتشمة وآلهتهم المتوحدة, في أسواق فلسفة روما المتناحرة وأوثانها العارية المفضوحة, خيانة أو انبهاراً زائفاً, تسلم الرومان والبيزنطيين الحكم, وسقطت امبراطوريات الفراعنة إلى غير رجعة, وظل حكم اللاتين في البلاد قروناً, يقهر ويظلم ويعذب ويسرق ويقتل ويذبح في أجدادنا, فكأنهم استبدلوا مقصلة فرعون بمحارق قيصر.
فلما جاءت دعوة المسيح عليه السلام, ضعيفة خجلى, اشتعلت الفتنة الكبرى بين أجدادنا, فإذ بالأغلبية خائفة من مزيد الطاغوتية, أو راضية بما هي عليه, أو مستسلمة لضعفها الذي أصبح من مكونات دمائها الفرعونية, مكتفية بتوكيل حكامها في الاستمتاع بخير البلاد ونهبها إرضاء للرب فرعون الذي كفاه عطاءاً أن يمنح آبائنا القهر والذل وطول العمر في الكد والكدح وبناء قصور الفراعنة الصغار وتشييد مقابر الفراعنة الكبار, تحت لسعات السياط وزمهرير الشتاء وقيظ الحر, فداءاً لبناء حضارة الخلود والبقاء.
جاءت دعوة المسيح عليه السلام, ضعيفة خجلى, مع مرقس الآتي هو الآخر من روما, وانشق الأجداد إلى طائفتين في مواجهة العقيدة الجديدة, فمنهم من قبلها خوفاً وطمعاً, ومنهم من قبلها خلاصاً من الظلم الروماني الذي كان متسلطاً على الرقاب, ومنهم من قبلها لأنه كان بلا دين, أو شغفاً بعقيدة جديدة تخلصه من إشكاليات عقيدته السابقة, أو رقياً في الفهم الإنساني والتحول من عبادة أرباب متعددة الوجوه والأشكال والمشيئات والإرادات, إلى رب واحد, تتسق إرادته ولا تنفصل عن مشيئته, في كلية بغير تجزيء, وهيمنة بغير تعارض, أو أن الله هداه حباً فيما سمعه عن معجزات المسيح عليه السلام.
وبقدر ما كان تعدد الطوائف, وبقدر ما كانت الصراعات تعم المجتمع الذي تحكمه سلطة أجنبية جاءت من الجنوب الأروبي لتحتل الشمال الأفريقي, وتنشر فيه دعوة الوثنية اليونانية والرومانية كبديل حضاري لوثنيتنا الفرعونية, بقدر هذا وذاك, كانت أيضاً تتعدد الجيوش والملوك في ولايات مصر من الشمال إلى الجنوب, وكانت أيضاً تتعدد لغاتها ولهجاتها ولكناتها وحروفها, كسوق كبير لا صاحب له.
ترقب أجدادنا الأقباط طويلاً أن يحررهم الرسل الذين بشروا في طول البلاد وعرضها بدعوة المسيح, وأن يحولوهم من صنمية روما ووثنية الفراعنة إلى وحدانية الإله.
نعم, كانت تلك هي دعوى مرقس الرسول الآتي مكلفاً من المسيح عليه السلام, ينشر بين أجدادنا الأقباط؛ أن الله واحد أحد فرد صمد, ويدعو إلى هدم الأصنام والمعابد.
نعم, هكذا تؤكد جميع كتب العقيدة والتاريخ التي يتداولها نصارى زماننا اليوم في الشرق والغرب, ويقولون أنهم بذلوا دماءاً غزيرة من أجل القضاء على الأصنام الفرعونية, ومحاربة عبادتها, ومقاومة الحكام الذين يفرضون الوثنيتين؛ الفرعونية واليونانية على أجدادنا, ولهذا كان عصر الشهداء الذي تحتفل به الكنيسة حتى يومنا هذا.
لقد بذل أجدادنا الأقباط الذين اعتنقوا النصرانية الموحدة, مئات الأرواح حرباً على الفرعنة والفرعونية, ولم يكن لهم مطمعاً ولا رجاءاً ولا دعوة غير محاربة الفرعونية والأصنام والفراعنة والرومان.
كانت الآمال كبيرة أن تتطهر مصر من أرجاسها وأوثانها, وعفواً, فليست هذه هي تعبيراتي, إنما أنقلها نصاً من كتابات جميع باباوات مصر منذ “مرقس” في القرن الأول, حتى “شنودة” في القرن الواحد والعشرين بحسب التقويم الصليبي.
لكن النصرانية لم تجد النصرة من الله, لتعم بلادنا وتتولى سلطان الحكم وتنتقل بمصر إلى حيث أراد المسيح عليه السلام, برغم أن غالبية أجدادنا الأقباط قد اعتنقوها, وارتضوها ديناً لهم, لكن ويا للأسف الشديد لم تكن نصرانية عيسوية, ولم تكن أبداً نصرانية ربانية, إنما بررت غاية كهنتها الوسيلة فضلوا عن الحق, وابتدعوا نصرانية أو نصرانية مشوهة, خليط من الربانية والفرعونية والرومية, كما هي في أيامنا, نصرانية تواؤمية ترضي كل الأطراف, ولذا لم يُمَـكـّن الله لأجدادنا النصارى منذ خيانتهم لأصولهم الفرعونية وتسليمهم للاستعمار الروماني وخلط دينهم بدينه, لم يمكنهم الله منذ ذلك التاريخ, ولم يمكن من بقوا على هداهم حتى يومنا هذا من حكم مصر ولو لليلة واحدة, برغم ما بذلوه من دماء وأرواح وحروب ومعارك ودمار.
حتى أتى الإسلام, لا ليواجه الفرعونية التي يُتهم المسلمين اليوم بمحاربتها, فيصمت النصارى أو يمارسون دور القاتل الذي يسير في جنازة مقتوله, فلا يكتفون بالصمت, إنما نجدهم في كل مكان اليوم يولولون حزناً وأسفاً على تاريخ وحضارة الفرعونية التي تولوا هم إفنائها, وقتل كهنتها, وذبح بقايا حكامها, وسرقة معابدها (نعم سرقة والوثائق لدينا لمن ينكر), وتحويلها إلى كنائس وأديرة وقصور للباباوات والرهبان تمارس فيها المنكرات, ولا أجد حرجاً مما أقول, فالتاريخ بين أيدينا مكتوب بأيدي كنسية, يقول ذلك عن أجدادنا عندما تحولوا من الفرعونية إلى الرومانية ثم إلى النصرانية المهجنة.
أتى الإسلام, لا ليواجه دين النصرانية التوحيدي, ولا حتى التثليثي, فلم يكن لواحدة منهما ذكر أو وجود في حكم البلاد, ولا سلطان لها ولا عزوة, بل حتى التاريخ لم يكن فيه نصيب للنصرانية المصرية, بعد أن تنازلت عنه طوعاً وخيانة لروما وبيزنطة بمباركة الكهنة والقسس والرهبان الذين جعلوا من قسطنطين الوثني الملحد قديساً للنصرانية, وجعلوا من صليبه صنماً يعبد, ولم يكن قبله في دين أجدادنا النصارى صليباً أو وثناً.
جاء الإسلام في مواجهة الامبراطورية الرومانية الوثنية الكافرة القاتلة المعذبة والطاردة والقاهرة لنصارى مصر المحتلة.
لذا يكون من السخف أن يناقش واحد من نصارى زماننا؛ ما إذا كان نصارى مصر قد واجهوا جيوش المسلمين من عدمه, لأنهم (وهم أجدادنا) لم يكن لهم في الأمر عير ولا نفير, إن خربت البلاد أو هزمت أو انتصرت فإن الرومان المحتلين كاتمين أنفاسهم, مستعبديهم كما استعبدهم أجدادنا الفراعنة من قبل.
لكن الله شاء ومشيئته فوق كل مشيئة, أن ينصر أقباط مصر بالإسلام, فيعيد البلاد إلى أهلها, ويحرر أجدادنا كهنة الكنائس من أسرهم, ويعيدهم إلى شعبهم, دعاة للنصرانية لا للإسلام, وأن يكون حاكم البلاد على دين أغلبيتهم, ومثلما هي سنن الله في خلقه جميعاً, كانت سننه جل وعلا في حكام الأقباط المسلمين, فكان منهم العادل وكان منهم الظالم, وكان منهم الغالب وكان منهم المغلوب, وكان من نصيب الأقباط جميعاً ـ مسلمين ونصارى ـ في ظل عقيدة الإسلام أن ينالوا شرف العادلين والغالبين, وأن يبتلى الأقباط جميعاً ـ مسلمين ونصارى ـ بظلم الظالمين والمغلوبين, منذ ولاية عمر بن الخطاب حتى يومنا هذا.
وكما كان في التاريخ خونة من الأقباط النصارى, كان هناك خونة من الأقباط المسلمين, وكما كانت الفتن والضلالات تنتشر بين الأقباط الأقلية ( النصارى), كانت الفتن والضلالات تنتشر بين الأقباط الغالبية ( المسلمين ), وكما كان من بين الأقباط الأغلبية رجال بذلوا الدماء والمال من أجل حماية الأمة وأهلها, كان من الأقباط الأقلية رجال بذلوا الدماء والمال من أجل حماية الأمة وأهلها, وكذا كان المخربون والمنافقون والعملاء والمدلسون والمرتشون, وكان أيضاً الباذلون الصادقون المخلصون الداعون إلى الفضيلة.
وعلى مدى هذا التاريخ الطويل لاختيار الأقباط الأغلبية لدين الإسلام ولغة القرآن, عاش الأقباط الأقلية في كنف الأحكام القرآنية والتشريعات الإسلامية, لهم ما للمسلمين وعليهم ماعلى المسلمين, إن دفعوا الجزية دفع المسلمون الزكاة, وإن دفعوا الضرائب دفعها قبلهم المسلمون, فغالباً ما كان الأقباط الأقلية هم المسؤولون عن جبايتها وتحصيلها بل وتنميتها للحاكم المسلم وإصدار الأحكام الجائرة بسجن المسلمين ومصادرة حميرهم ونساءهم لحساب الحكام الظالمين, أزمنة يعمها الوئام والسلام, وأزمنة يعمها الخراب والدمار, وأزمنة يعلو فيها شأن الأقلية وينحط فيها شأن الأغلبية, وأخرى يعلو فيها شأن الأغلبية وينحط فيها شأن الأقلية, ظروف وأحوال تعاقبت وتوالت بحلوها ومرها, لكنه الشعب بأهليه أبداً لن يستطيع البراءة من أصوله, ولن ينقى دم النصراني ولن ينقى دم المسلم من دم أجدادهما الوثنيين والكفرة والمشركين والموحدين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وإذا كان للفراعنة فضل عمل لصناعة التاريخ وحضارته, فهو فخر للأقباط الذين خالفوهم في عقيدتهم أو الذين ظلوا عليها, لا حق لطائفة من الأهلين أن تستأثر به, أو تنسبه إلى نفسها, أو تزايد عليه, أو تدعي الانتساب إليه دون طائفة أخرى.
وإن كان لأجدادنا الفراعنة سوء عمل أو ضلالة اعتقاد, فليس مكرمة لطائفة ارتضت عملهم أو اعتقادهم على طائفة أخرى لم ترتض هذا العمل أو ذاك الاعتقاد.
ومن نعمة الله على الأقباط ـ كما أشرت من قبل ـ أنهم لمّا تنصروا في القرون الأولى للميلاد, فإنما اعتنقوا نصرانية رافضة للفرعونية الوثنية بمعابدها وهياكلها وأصنامها وطقوسها, فحطموا الأصنام واحتلوا المعابد واستبدلوا الهياكل, رافضين كل صورة من صور الشرك بالله التي كان عليها الفراعنة ومن ورثوهم من الرومان والبيزنطيين.
فلما أسلم الأقباط واعتقدوا برسالة التوحيد, وأعلنوا الشهادة بأنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, فإنما رفضوا الشرك بالله, ونبذوا الأصنام, وحرّموا السجود لغير الله والتزموا بشريعة الله في الزواج والطلاق والحدود والمعاملات, دون المساس بعقائد الآخرين أو التعدي عليها, وإلا ما بقي من تراث هذه العقائد الفرعونية ما يشهد عليها اليوم, ولا من تراث اليهودية ما يحفظ عليهم أمانهم, ولا من كنائس النصارى وأديرتهم ما حافظ لأهلينا منهم على دينهم ودنياهم, شركاء لنا في التاريخ والحضارة والوطن.
وليس من نافلة القول, أو قفزاً على أحداث تاريخ الأمة, أن نسبة عدد النصارى بجميع طوائفهم ظلت ثابتة لم تتغير منذ قرن كامل من الزمان, وهي بالضرورة هكذا منذ ثلاثة عشر قرناً, حيث بلغ عددهم في أول إحصاء سكاني أعده عام 1897 الاحتلال الإنجليزي: 609511 نسمة, بنسبة 6.26 % من مجموع عدد السكان, وفي الإحصاء الإنجليزي للأعوام 1907, 1917, 1927, 1947, على الترتيب, كانت 6.3%, 6.6%, 6.76%, 7.6%, وهي أعلى نسبة للنصارى في المائة عام المنصرمة, أصبحت في إحصاء عام 1986, مع عوامل الهجرة المتزايدة وشبه المنتظمة 5.8%, وهي النسبة التي عليها عدد الأقباط النصارى في مصر الآن ( عام 2003 ), بما يساوي أربعة ملايين نسمة, من بينهم3.1 مليون أرثوذكسي بنسبة 4.46 %, بحسب أدق الأرقام الإحصائية المتوفرة بالجهاز المركزي للإحصاء, ومعهد الإحصاء بجامعة القاهرة.
وجدير بالذكر, أنه كما احتضن المسلمون أهلهم النصارى طوال هذه القرون الطويلة, بغض النظر عن فترات الصراعات التي كان يصنعها الغرب أو أعوانه,أو التي تردت فيها أحوال الأمة كلها, فإننا نجد أيضاً أن الكنيسة الأرثوذكسية الأم في مصر, قد احتضنت أبنائها الذين تخلوا عنها واعتنقوا طوائفاً نصرانية أخرى تجاوزت الثمانين طائفة في مصر, فلم تمارس ضدهم عنفاً أو قهراً, بغض النظر عن فترات الصراعات التي كان يصنعها الغرب أو أعوانه, أو التي تردت فيها أحوال الكنيسة الكبرى.
ومن غرائب إحصاء عام 1986, الذي أشرفت عليه عشر مؤسسات دولية, من بينها الأمم المتحدة, أن عدد الوفيات وعدد المواليد ومتوسط الأعمار ونسبة الذكور والإناث والمؤهلات العلمية والأمية وعمر الزواج وعمر الوفاة ونسبة الزواج, بل ونسبة الطلاق, كادت أن تكون متطابقة تمام التطابق, بما يدل على وحدة نسيج الأهلين بحسب قوانين الله في خلقه كافة.
وكم من فتنة مرت بها مصر وانتهت, وكم من صراعات بلغت ذروتها حتى يتصور المرء أن مصر انقسمت على نفسها أو أكلت أبنائها, ثم يهدأ كل شىء وتدور عجلة الحياة, كما لو لم يكن قد حدث شيئاً.
وإذا كانت النصرانية هي المعول الأول في تاريخ مصر لهدم الفرعونية وأصنامها وتحويل معابدها إلى كنائس وأديرة, نصرة لدينها وإرضاء للطاغوت الأكبر في روما حينذاك, فيكون خيانة لله ثم للنصرانية وللوطن, أن تكون النصرانية اليوم هي المعول الأول في تاريخ مصر لهدم عقيدة الإسلام, نصرة لدينها وإرضاء للطاغوت الأكبر في روما أو أمريكا, لأن الأقباط الأوائل قديماً هم الذين اختارت أغلبيتهم نصرانية روما, أما أقباط الحاضر فقد اختارت أغلبيتهم إسلام محمد صلى الله عليه وسلم, فكما احترمت أقلية الأوائل عقيدة الأغلبية, يجب أن يكون حال أقلية الحاضر اليوم من احترام عقيدة الأغلبية, خاصة وأن ديمقراطية طاغوتيّ الماضي والحاضر, في روما وواشنطن يتغنون بها ويعرفونها في أبسط معانيها بـ “حكم الأغلبية”, ولا يقبل العقل, وليس المسلمين من الهوان, أن يفرطوا في أصول دينهم ويحجبوا الإسلام عن أبنائهم, ليرتع المتطرفون في كنائسهم, دعاة للشرذمة, والعنصرية, واستجداء الفتن, وإثارة الطائفية بين أبناء الوطن الواحد.
فليهديء النافخون في الرماد من روعهم, وليكف الراقصون على جراحنا من هذيانهم, ولتبق الأمة المصرية بأهليها وعقيدتيها, في كنف الإسلام وأمنه, كما كانت منذ أربعة عشر قرناً من الزمان, ولن يحفظ أمان الأقباط النصارى بين الأقباط المسلمين في مستقبلهم, إلا بما حفظه لهم الله في ماضيهم, وكما للفتن صانعوها, فإن لوأد الفتن رجالها ومصلحوها, حفظ الله مصر للمصريين وحفظ للمصريين مصرهم, أقباطاً مسلمين أو أقباطاً نصارى.
ذلك هو مختصر (حكاية أمة اسمها “مصر”), فإن كان لأحد قول عليها, فمرحباً بالحوار, لكنه أبداً أبداً لا صمت في مواجهة الغوغاء, وإن كان لأحد صوتاً عالياً يمكنه من التشويش على الحق, فيقول تعالى: ” إن أنكر الأصوات لصوت الحمير”, ولتبق مصراً مسلمة حكاماً ومحكومين, بالحق يكون الحكم وبالحق يكون القضاء, وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.